تعجبني التجارب التي تراكم على المنجز ولا تلغيه، ثم تشقّ طريقها محصنةً بالمعرفة والوعي، راسمة هدفها بوضوح، ممتطية جواد طموحها الأصيل. هذه الأصوات قابلة للتحقق، وقابلة للتعلم، وقابلة للنجاح.. لأنها بكل بساطة لا تريد أنْ تمحوَ كل ما قبلها، ومن قبلها بنزق وفوضى غير خلاقة، لتجدَ نفسها وحيدةً، تحفر اسمها في الهباء، وتغني بنشاز على الأطلال: أطلالها، كما باتت عليه سنة كثير من المتعلقين بوهم الكتابة، بل هي تريد أن يكون لها صوتها المتفرد، وهذا مطلبٌ جليلٌ، لأنه يعني الإضافة بكل تأكيد. وكثيرةٌ هي التجارب التي ماتت وهي لم تزهر ولم تثمر، لأنها لا تريد أن تتعلم، ناهيك عن أنْ تَسمع، لذلك هي بالضرورة لا تُسمع، بل هي بلا صوت ولا صورة، لأنها ركبت غرورها قبل أن تبحر في مركب الكتابة، ولأنها استجابت لمن يمدها في الغَي، ويصور لها ما ليس فيها، وليس منها، فنجدها لا تبرح مكانها، لأنها تكرر نفس أخطائها، حتى اللغوية منها، وهي لا تعرف تحديداً ماهية ما تنتج، ولا تعرف يا للألم وجهتها، فالمهم لديها أن تكتب، وأن يشار إليها، ليس بالبنان فحسب، بل أن تُمجّد بالنيون، وأن تُمتدَح بما ليس فيها، فهي في تصورها المحزن تظنّ أنها قد ضمنت مقعداً متقدّماً وثيراً مع أهل الكتابة، سواء أكان ما تكتبه قابلاً للقراءة والبقاء، أم لا!!


وبعيداً عما يثيره ذلك من ألمٍ سببه الورود التي ذبلت على الأغصان الغضة، بل قطفت عنوةً، يسعدني اليوم أن أقف أمام تجربة موجبة، مضيئة، متواضعة، تسمي نفسها طالبة: فهي تسال وهي تعرفُ زيادة في التأكيد، وميلاً قانعاً بالتواضع للتواضع، وتكتب وهي تعلم، ثم تسال وهي تعلم.. فنفرح بعلمها، كما نفرح بأسئلة التوكيد.

نورة مطلق: نخلة باسقة من نخيل هذا الوطن، تابعتها لأشهر على الفيسبوك، وعبر صفحات الجزيرة الثقافية، أول ما يطالعك في سيرتها عبر حروفها: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (39) سورة النجم، ثم تكتب: يسكنها « الوطن» من نقطةِ النون في اسمها, إلى تائه المربوطة في معصم ِ الشمس..

هي طفلة أبيها التي لا تتجاوز الخامسة في قلبه، والذي علمها كيف تكون الكتابة من القلب، وبه، وفيه!

تتقنُ ثلاث لغات، لكنهَا تصلي بالعربيةِ, وتترجمُ إلى لغةِ السماء! يغتابها « الشعر» فتستغفرُ منه, وله! وقد علمها محمد صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمالُ بالنيات, وإنما لكل امرئ ما نوى).

وعن سر إجادتها للغتها العربية على غير عادة كثير ممن يدرسون اللغات الأخرى تقول: أتذكر عندما سألتني الأستاذة التي قابلتني للقبول في قسم الترجمة: لماذا تريدين التخصص في الإنجليزية؟ قلت لها لأُعلمَ العربية!!

والحقيقة أن أول ما لفت انتباهي لكتاباتها هو العمق اللغوي، ثم التكثيف للحالات التي تعبر عنها، فكأنها اختصار لرحلة الشجرة نحو الثمرة، أي أنها لا تهرب من اللغة كما يفعل كثير ممن نقرأ لهنّ هنا وهناك، بل هي تلجأ لهذه اللغة الثرية بحب ظاهر، ونباهة بالغة، لتعينها على بناء قصرها الخاص، وعالمها الإبداعي الذي لا يفتح كل نوافذه، ولكنه يترك للهواء فسحة لنكتشف ما وراء الستائر، رغم أن الستائر جميلة متناسقة في أشكالها وألوانها.

فإن أردنا بلوغ الخيال معها فهنا سلم خشبي رفيع من أختها الشجرة:

استعارة:

تفرقُ التسبيحَ على أفواه أصابعها

تتفقدُ الفرحَ في وجوه الصغار..

لا تخبرهم,

أنّ الهواءَ يجهرُ بالحزنِ, وتُسِرُّه ضراعة.

لا بأس صغاري!

حين نستعير البِشَارات والأعياد.. «

وإنْ دعانا حنين الانتماء، وتُقنا للوضوح، فهي حاضرةٌ هنا:

رهان:

التحفوا الوطنَ

وناموا..

على طهارة..

ستصبح على حبنا يا وطناً

فرّق النومَ علينا بالتساوي.».

وإنْ نحن تساءلنا عن أشجار الحزن، وبراءة القلب الطفل، حدثتنا عن الشجار:

عن شجار:

ماتَ شِجارنا المُعمِّر

وها صغارُ الأمنياتِ ترتدي يتمها..

فاذهبْ..

وقُصّ من الذكرياتِ المفخَّخة وهماً,

وألصقهُ على جبينِ أُحجيتنا: دعاء..

دع الجراحَ تصلي على عتباتِ الكلام

يؤمها آخرها نزفاً .

دع مساءاتي

كأقلام الأطفالِ؛ مبرية من الجهتين !

فلولا أنتَ :

ما كمّم الحزن كفي

وما كنتُ ارتطام فرحٍ بخذلان!

وإنْ نحن رمنا العمق، ودقة الملاحظة، فهنا المحار:

« إقرار:

(1)

لنخلةٍ على رصيفٍ لا يُزار:

كان قدراً

أنّ ألوان البلح شتى..

وطعمه واحد.

... تذوقتُ

قوة الخوص!

(2)

لقصيدة قيّض الله لها وجهي:

قد تقاسمنا الهواء

فاكتملت

حفلة الاختناق!».

ليس هدفي هنا مجرد الكتابة عن اسم، أو عن رسمٍ، رغم محبتي لذلك، وليس هو النقد لأعمال بعينها، بقدر ما هو الإشارة بكل اعتزاز وزهو إلى ما يلفت ويبهج ، لعل أصحاب النقد والواجهات، بمختلف مدارسهم وأدواتهم، يلتفتون إلى الشجر والكلم الطيب، فيكتبون، ويرسمون على جدران المعرفة، ويأخذون بيد هذه العقول الجميلة المتواضعة - التي لا تحسن الطرق على الأبواب، وليس هذا من طبعها - بدلاً من هذا الضجيج المفتعل الذي يصم أذني الثقافة، والذي هو في النهاية، كما كان في البداية، لا يسمن ولا يغني من جوع!!

قد تكونُ نورة مطلق في بداية طريقها وأسئلتها، ونحن هنا لا نقدّم الإجابات الجاهزة، لكننا بكل تأكيد نشير، ونبارك لها الطريق، والأسئلة.