لم يكن عبد الله نور رحمه الله أول من أضاء لي، ولن يكون الأخير، لكنه باختلافٍ معتمدٍ على قاعدة تراثية، ومعرفة لصيقة بالواقع وكل ما يجد، وذكاء ولماحية وسخرية مريرة، وضحكة مجلجلة بنظرات تقلب أرجاء المكان، وتتفحص الوجوه، وزوايا المكان، كان من أشد من أثروا بي، وجعلوني أعيد حساباتي وقراءاتي.


جمع أبو عبد الرحمن مع عمقه التراثي، ولعاً بكل ما هو حديث، مدهش، وخارج عن العادية والرتابة، والجمود. سواء كان عالمياً أم عربياً، أم شعبياً.
وكانت له قدرة غريبة على التأقلم مع الناس.. كل الناس.


التقيته أوائل الثمانينات وكان ملازماً للصديقين جار الله الحميد وعبد الله الصيخان، محباً لهما، وظللت أراه كلما خرج من حالاته الشنفريّة، وأقصد هنا اعتزاله الناس، بشكل متقطع عبر السنين، وكان كلما رأيته قد ازداد شباباً وبهاء.. وطولاً.
كان عبد الله كريماً محباً حنوناً، يبذل كل ما لديه إذا تيسرت أحواله، مانحاً من معه كلّ ما معه، وكان كالصعاليك الذين أحبهم في تراثنا الشعري، لا يحب الشعر ويحفظه ويكتبه بل يعيشه بكل تفاصيله.


وأذكر أنه كان عائداً للتو من رحلة إلى المغرب فهاتفني قائلاً: مرني لدي هدايا لك، ولكن أسرع فقد تنتهي!!
فمررت بالفعل عليه في منزله في " الشميسي "، كان جالساً على الأرض والكتب بالعشرات من حوله.. قال لي تفضل اختر منها ما يعجبك..هي لك!!
كنت أختلف مع أبي عبد الرحمن ولكنها اختلافات محبة لا كراهية، يزول أثرها خلال ساعات، ولكنني ظللت أتفق معه، وأحبه، وأتفهم حياته، وأدبه، وجنونه الخلاق.
كنت أجالسه، وأسافر معه وأتلقى منه كتلميذ مندهش معجب بالظاهرة المتجددة التي أمامه، معجب بمعلمه، فزاد التفاتي للتراث، وازداد توازني مع الشعر الحديث.
ولذلك ظللت أسعى إليه رغم تقطع السبل بيننا، ظروفي وظروفه: وكان من آخر ما قاله لي في آخر لقاء جمعنا: لقد ظلمناك يا محمد.. ظلمتك فقد كنت ميالاً للصيخان وآخرين.. وضحك وحضنني..
قلت له بل كنت أباً لنا جميعاً.. لا عليك، وكان ذلك منذ وقت ليس ببعيد بقياس فترات غياب عبد الله.
وأذكر أنني عدت إلى المكان الذي كان مقيماً فيه عند الصديق محمد الصالح للاطمئنان عليه، فلم أجده.. ووجدت الصالح الذي أخبرني بمغادرة النور، تحدثنا عنه بجمالٍ وتفضل بإهدائي هذين البيتين خطهما عبد الله نور بخطه الجميل الواضح المميز ولا زلت أحتفظ بهما:
إذا ما الدهرُ جَرَّ على أنــاسٍ
بكلكلِهِ أنـــاخ بآخــرينـــــــا
فقل للشامتيــن بنا أفيقــــوا
سيلقى الشامتون كما لقينــا


تعرفت مع الصديق الراحل عبد الله نور على عوالم شعرية متباينة ومختلفة يجمعها خيط إبداعي واحد هو التجاوز والاختلاف، وكان كل منها يأخذ شكل تميزه بطريقة أبي عبد الرحمن الفذة في تصويره حين يتقمصه بطريقة مسرحية صافية تخصه هو وحده.
فكلنا قد تعرفنا على الشنفرى في مرحلة أو أخرى، ولكننا مع عبد الله نور عايشناه، بل عشناه صعلوكاً متمرداً كريماً جواداً شاعراً نبيلاً مغرداً متفرداً.
لقد أهداني النور مبكراً معرفة الشنفرى، والصمّة القشيري، وعنترة وسيل من الشعراء، كما عرفني على فواز عيد واليوت وباوند وغيرهم.
كان المكان لا يسع أبا عبد الرحمن حين يقرأ لأحدهم أو يتحدث عنه، بل كانت خشبة المسرح التي ينصبها أينما ذهب تقصر أحيانا عن خطواته الفارهة، إذ أنه لا بد أن يتجلى واقفاً بعد بيتين لأي منهم ليكمل القصيدة إيقاعاً وتجسيداً، حتى تعودنا منه ذلك كخبزنا اليومي.
وكان كلما قرأت له في بداياتي يحرضني على رفع الصوت والإبانة والتجويد والتجسيد.. يحرضني على تقمص حالة الكتابة الأولى.
لقد كنا نردد مثلا هذه الأبيات غير مدركين، أو غير عابئين بشاعرها أو بالقصيدة وترتيبها:

بكت عينك اليسرى فلما عذلتهـــا
عن الجهلِ بعد الحلمِ أسبلتا معـــا
وليست عشيات الحمى برواجــعِ
إليك ولكن خلّ عينيك تدمعـــــــا
وأذكر أيام الحمـــــــــى ثم أنثني
على كبدي من خشيةٍ أنْ تصدعا

ثم اكتشفناها حين حببها لنا أبو عبد الرحمن وقرّب شاعرها من ذواتنا العجلة، فتعرفنا على واحد من أرق شعراء الجزيرة على الإطلاق، هو الصمة القشيري، وقد اهتم به كل من الشيخ الجاسر، والباحث الفيصل، ولكن اهتمام عبد الله نور كان من نوع آخر، فقد كان اهتماماً شعرياً وتحليليا يكشف عن عبقرية فريدة، وطاقة كشف نادرة متوقدة.
ومن تلك المحبة، وذلك التقريب، ذلك أنني ما زلت أستعيد من الذاكرة للصمة القشيري، ولكن دون ترتيب، فمن أين لي بذاكرة كالذاكرة العبقرية التي كان يتمتع بها ليروي لنا لساعات من الشعر والنثر غيبا، ودونما لحن أو تباطؤ أو نسيان:

ألا من لعينِ لا ترى قلل الحمى
ولا جبل الأوشال إلا استهلـــّتِ
ولا النير إلا أسبلت وكأنهـــــــا
على ربدٍ باتت عليـــــه ِ وظلّتِ
لجوجٍ إذا لجّت بكــــيٍّ إذا بكت
بكتْ فأدقّتْ في البكــــا فأجلتَِ

ومنها هذه الأبيات التي أحبها وميزها عبد الله شرحاً وتعليلا:

ألا قاتل الله الحمــــــــى من محلةٍ
وقاتل دنيانا بهــــــــــا كيف ولتِ
أقول لأصحابي غداة فراقـــــــها
وددت البحورَ العامَ بالناس طمّتِ
لتنقطع الدنيا التي أصبحت بنـــــا
كمثلِ مصاباتٍ على الناس عمّتِ

لقد انتزع أبو عبد الرحمن الصمة من التراث ليدخله إلى قلوبنا التواقة للجمال، وذلك عبر مقدرته على تقريب البعيد، وتبسيط الصعب كما في لامية العرب.. وغيرها من عيون الشعر العربي.
لقد حبب العملاق التراث في نفوسنا، كما نبهنا إلى أن الحديث ليس بحديثٍ إلا بمدى قدرته على التجاوز، إلا بقاعدة معرفية عميقة، إلا بركوب الصعب، إلا بلغة ثرية ورؤية صافية.
لقد أجلسنا أبو عبد الرحمن أمام التراث تلاميذَ نجباء كاشفين لنا أسئلتنا الخاصة، لا متلقين بلداء نردد ما نسمع دون إحساس بقيم الجمال، مكامنه وبواعثه.

وقد أحب عبد الله نور الشاعر الفلسطيني فواز عيد حباً عظيماً، وكان يجمعهما حب وفهم التراث والتاريخ العربي الإسلامي، وافتتان بكل حديث، وأعوامٌ طويلة قضاها فواز في المملكة هو والقاص والروائي سالم النحاس.
وكان أبو عبد الرحمن يحفظ تقريباً كل قصائد فواز في مجموعته " أعناق الجياد النافرة " الصادرة عام 1963 والتي تعد الأقوى من بين بدايات معظم شعراء الستينات الفلسطينيين حسب عز الدين المناصرة.
ورغم أن النور فتننا ومن بعدنا بروايته لقصيدة " دان.. دان " التي تجسد الراقص الجنوبي صاحب السبعين عاما:

صفق الراقصُ.. فاصطفت على الجنبينِ
جدرانٌ، ونخل ٌ
ويدانْ
واستدار الليلُ " خوصاً "، ووجوهاً
تتلوى: دانِ.. دانْ
كان شيخاً.. خلفه سبعون عاماً وصحارى
وعلى الخصرِ نطاقٌ..
وعلى الساحِ تلوبُ القدمانْ
تخفقُ الراحةُ كالنسرِ على الأخرى..
وتعدو الساقُ خلفَ الساقِ..
يلتفّ.. ويستعطي أكفّ المنشدينْ
راقصاً من عمره السبعين.. ينْفضُّ
جبينٌ بارقٌ..
تبكي- إذا أوجعهُ اللحنُ – شفاهٌ
ويدانْ
ويغني طائفاً بالساحة الكبرى..
فتنهدّ أكفٌّ: دانِ.. دانْ.

إلى آخر القصيدة الجميلة التي كان يغنيها أبو عبد الرحمن راقصاً، إلا أن القصائد الأخرى التي كان يرويها كانت بنفس الدرجة من الفتنة، والموسيقى العالية، والتفاصيل والدفء والجودة.
ومن تلك القصائد الرائعة قصيدة " رواه الترمذي " ومنها:

هما عيناك.. و الخلجان والغرقى
هما خدرُ القواريرِ
هما القاتُ
موانئُ.. فيؤها الألوانُ والأسرى
أجيءُ إليهما لأموتَ ملقىً مثلما ماتوا.

* * * * *

هما تعبُ النوافيرِ
تنوحُ بساحةِ الليلِ الكبيرِ.. بساحةِ الميدانْ
هما ماضيَّ.. أيامي التي أحيا.. هما الآتي
بكى صحبي لأنّ سحابةً مرتْ..
وما جادتْ بواحاتي.

وقصيدتا " أيلول الجامح " و " تشرين يمر " .
إلا أن الشمل تفرق، ولم يجتمع الشتيتان، بعد مغادرة فواز إلى الشام.. والمخيم، وزياراته المتباعدة، فلم تحظ دواوينه اللاحقة بنفس الدرجة من الاهتمام، خصوصا " من فوق أنحل من أنين"، كذلك ديوان " بباب البساتين والنوم " الذي كان متميزاً وجميلاً كعادة شعر فواز، إلا أنني لم ألحظ أبا عبد الرحمن يتحدث عنه.
وأذكر أنني قابلت النور بعد وفاة فواز وشكرني على الكتابة عنه، وساهم هو بجهده في لفت الأنظار إلى وضع أبنائه وأسرته من بعده، كعادة أبي عبد الرحمن رحمه الله في مساندة القريب والبعيد والغريب، والسعي لخدمة الناس وتقديمهم على نفسه.
وهكذا كان النور جامعاً بين التراث كما رأيناه لدى الشنفرى، والصمة وغيرهم، والحديث كما هو لدى فواز وغيره من مبدعي الشعر العربي.


أعراف/ الجزيرة
1327/2006