« الجوع وديانٌ من الحزن الحثيث «



والجوع أنواع منها ما تحركه المعدة، وشهوة الطعام، ويسدّه الإطعام:

(فأطعمهم من جوعٍ)، يلتقي فيه الإنسان مع الكائنات الأخرى، ويكفل الله الجميع:

(وما من دابة في الأرض ولا في السماء إلا على الله رزقها)، ومن الفقر والجوع كان التصدق ولو بتمرة.. وكان الإدراك بخطورته، والتحذير من مغبته:

(وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئاَ كبيراً).

والإملاق الفقر والفاقة والإعواز، والفقر جوع، ومع الفقر والجوع خشية. وللجوع أطفال وحواصل، والطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً لزغب الحواصل.

والجوع والفقر زاد الشعراء والمبدعين، كما هو الظلم والشقاء، وكما هو الغنى والحب والحبور. ولم يجد الحطيئة في سجنه، وهو أول شاعر سجن على بيت شعر، ما يستعطف به أمير المؤمنين غير جوع أطفاله وفقرهم:

مَاذَا تَقُولُ لأفْرَاخٍ بذي مَرَخٍ

زُغْب الْحَواصل لاَ مَاءٌ وَلاَ شَجَرُ

أَلْقَيْتَ كَاسبَهُمْ في قَعْر مُظْلمَةٍ

فَاغْفرْ عَلَيْكَ سَلاَمُ الله يَا عُمَرُ

وقد صرخ بعده بدر السياب بقرون، بألمٍ وحرقةٍ ووجع:» وفي العراق جوع/ ما مرّ عامٌ والعراقُ ليس فيه جوعْ «.

وفي العراق جوع من قبله ومن بعده، منذ الاحتلال العثماني، فالانتداب البريطاني، فالاحتلال الأمريكي، لما حاول سد رمقه، ليعيده الغزاة مرة أخرى إلى ظلمات الجوع والفقر والغربة.

والجوع مثبط مرتبط مع البؤس، وهو أحد أسبابه، ودخل فيكتور هوجو التاريخ عبر « البؤساء «.



ولكنه كذلك دافع ومحفز مرتبط بالرغبة والطموح والترقب، وحب الأوطان والأهل، وانتظار الغيم والفرج والنصر:

« قطعان قلبي لمْ تجدْ مرعىً يليقُ بجائعٍ

وطيور عيني دون ماء!! «.

وهنالك جوعٌ للسلطة أينما ولّيت، فهو مرتبط بالسياسة، وهناك جوع بسبب السلطة والتسلط، فنرى الجوع يشعل الثورات والأمثلة على ذلك لا تحصى، كما في عصور الإقطاع، وكما في ثورة فرنسا، وثورة المصريين على السادات، وقد استُخدم الجوع كسلاح من الأطراف المتناقضة، فاستخدمه الساسة فقالوا: « جوع كلبك يتبعك «، ولا بد من أنّ من ابتكره الإنجليز ورفاقهم الأوربيين أصحاب سياسة فرق تسد، بخبثهم المتوارث.. واستخدم الغزاة والمحتلين سياسة التجويع والحصار، وفي المقابل استخدم الأسرى الإضراب عن الطعام: Hunger Strike سياسة قد تنجح أحياناً في امتحان السجن والسجان، وربما التفوق عليه، وهو ما يفعله أسرى فلسطين في السجون الإسرائيلية منذ سنين وحتى الآن، وفلسطين والقدس والأقصى أسرى، وجوعى للحرية والحق والعدل. والجائع في الإنجليزية Hungry، وهي مفردة حليفة ومؤججة للغاضب Angry

وهنالك جوع للجنس.. يستغله المفسدون وتجار المتع في كل بقعة في العالم، عبر التحفيز والإثارة، وعبر المتع السريعة الزائلة، من لاس فيجاس، ولوس أنجلوس، حتى الهند والصين. ومن روسيا حتى الأرجنتين.

وتاريخياً ليس كل الناس موسى عليه السلام الذي يكتفي بما يهبه الرب: ( ربّ إنّي لما أنّزلتَ إليّ من خيرٍ فقير) فهناك شرهٌ وبطرٌ لدى الناس. وعلى ذكر موسى، فهنالك جوعٌ أبديٌّ للإفساد والتدمير والقتل.. قتل الأنبياء المبلّغين، حتى العباد المبلَّغين، ونهم وشره للمال والسطوة، وهو ما يمثله اليهود أحسن تمثيل تاريخياً، وعبر صهاينتهم في القرنين الأخيرين، وهم عندما طلبوا من نبينا عيسى عليه السلام آيةً طلبوا منه مائدة من السماء غدت عيداً في الدين الجديد.

ويسألنا جوعنا المعرفيّ: كم عدد الجوعى في العالم؟ كم عدد هؤلاء الذين لا تذكرنا بهم إلا الفواجع والكوارث العظمى، كما هو الحال في الصومال مثلاً، وحاله مجاعة، والمجاعةُ مخمصة، وقد عرفها أهلنا أهل الجزيرة العربية، وهي لهولها تحلل بعض ما حُرّم؟!

والعدد هائلٌ كَهوْلها فهو مليار جائع، نعم مليار جائع بل يزيدون، وهو رقم خيالي في ظلّ فجور دول الشمال الغنية التي لا تقدم إلا الحروب والموت والدمار لسكان هذه الكوكب الجميل المكتنز بالثروات!!

ومن الطريف أن « الفاو « موقع آثار عظيم في الجزيرة العربية، وهو اختصار أيضا لاسم منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة التي تسعى إلى تحرير العالم من الجوع، وشعارها: من أجل عالم متحرر من الجوع: FAO. ويسندها خليجياً برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة « أجفند «: AGFUND.

وقد أذهلتني أفكاره وبرامجه، وخططه ومشاريعه في التنمية ومعالجة الفقر التي تعطي أكلها عبر العالم اليوم من أمريكا الجنوبية حتى آسيا وأفريقيا.

والفتى الإفريقي نحت نفسه من شدة الجوع تمثالاً على صخرة في القارة السمراء التي استرقّ المستعمرون البيض بشرَها، وسرقوا منها ما فوق الأرض وما تحتها:

« للجوع، للجوعى/ وللمدن الأنيقةْ.

نحتَ الفتى تمثالهُ/ من فضّة الماضي/ ومن جسد الحقيقةْ.».

والجوع مرتبط بالإنسان في كل زمان ومكان، بسبب قلة الموارد، وزيادة السكان، حتى سكن بعض أهلنا في مصر المقابر، وأنهك الجوع وجدانهم، ووجداننا:

« لَنَا مَنْزلٌ في المَقَابر

أنبَأنَا سَيدٌ في السُكُون

وَأرْشَدَنَا الجُوعُ للمَائدةْ.

أطَعْنَاهُ حَتى الجدَار الأخير

وَجئنَاهُ بالمَنْطق المُسْتَدير

وجئنَاهُ بالأحْرُف البَائدةْ.

لَنَا منزلٌ غَيرَ أن الغُرَابَ

يُقَاسمُنا القَبرَ وَالشاهدةْ.».

وهنالك جوعٌ معنويّ يعني التطلع بلوعة ولهفة ورغبة جامحة لتحقيق هذا الهدف أوْ ذاك، وما بين الماديّ والمعنويّ يحلق الإنسان المبدع حاملاً رسالته، محمّلاً بالأسئلة، باحثاً، ومعزّزاً للحق والخير والحب والجمال والسعادة والعدالة والمساواة والحرية، ساعياً لخير بني الإنسان في كل مكان، فما بالك بالأقربين.. مجنّداً جوعه وولعه في سبيل النصر والمجد والأمن، نازفاً إنْ لمْ يتحقق مراده:

« يَا عَبْلُ بي جُوعٌ وَطَرْفي لَمْ يَنَمْ

لاَ السيْفُ سَيْفي في الغُبَار

ولاَ القَدَمْ

فَعَلاَمَ يَحْتَاطُونَ من لَوْني

وَيُرْعبُهُمْ لسَاني

وَأنَا السنينُ تَمُرّ لَمْ أبْرَحْ مَكَاني

وأنَا القَصيدَة ُ لَمْ تَتمْ؟ «.

* * *

* المقاطع الشعرية المقوسة، عدا ما هو للسيّاب، والحطيئة، للشاعر كاتب المقال.