نحن لا نلتفت في الغالب للعقول والأنامل المبدعة التي تقدم لنا الأعمال الصحفية في شكلها النهائي، أو تلك التي تخطط لها، ضمن منظور متكامل يربط المضمون بالشكل، ويربط المواضيع والصفحات ببعضها، ويؤطرها في النهاية بغلاف لا يأسرها أو يقننها، بل يطلقها تحفة محلقة زاهية الألوان، غنية مكتنزة مبنى ومعنى، تثير فضول القارئ المتصفح وتقود عينيه نحو متعة جمالية بصرية، ومتعة معرفية عقلية، أي أن هنالك مبدعون يعملون في الظل بصمت، لكن عطاءهم عالٍ ومضيء بدون ضجيج، أو افتعال، أو لمعان سراب.

من بين هؤلاء يقفز اسم الفنان الحقيقي كميل حوّا الذي يعد بخبرته ثروة فنية، وهو مكسب كبير لمطبوعتين جميلتين يديرهما فنياً: الأولى قديمة جديدة نعرفها جميعاً لطول ما عايشنا صدورها، وهي مجلة القافلة الصادرة عن شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو السعودية)، وقد بلغت ذروة نأمل أن تحافظ عليها، والثانية جديدة نسبياً هي مجلة (ترحال) لسان حال الهيئة العامة للسياحة والآثار، تجاوزت روتين ورتابة المجلات المختصة المماثلة ذات الورق المصقول اللامع الذي لا يشفع لها، فتُلقى جانباً حال تقليب صفحاتها.

وكما نعلم فإنه لا بد من أن يكون للمطبوعة روحاً، ونفساً منتظماً واحداً يجمع بين أبوابها وصفحاتها، وإستراتيجية وهدفاً لمشروعها، وتصوراً مسبقاً لما سيكون عليه عددها المقبل، والقالب المناسب، والحرفة التي تشكل من كل تلك المواد التي تأتي من مصادر مختلفة تآلفاً يسحر القارئ، ويقود عينيه بسلاسة عبر مواضيعها، وذلك ما لا نراه في مطبوعاتنا بشكل عام، حيث تفتقر للروح، والبصمة الخاصة، والدفء، والتناغم والتوازن بين الشكل واللون والمادة التحريرية.

وعلى سبيل المثال فإنني أحتفظ بعدد من أعداد القافلة، خارج قافلته، لا بأس من المرور عليه لتوضيح غايتي، ففي البدء يعتبر تصميم غلافه وحده لوحة فنية، جاءت بالأحمر والأبيض، وبخط أسود فاصل يحمل لون اسم المجلة، ويظهر حسن اللونين إذْ يبرزهما، ويد باب تقول لك افتح باب عالمٍ معرفي جديد. العدد هو السادس من المجلد 57 لشهري 11، و12، 2008 ويصدر مع مرور خمسة وسبعين عاماً على إنشاء أرامكو، يحمل العدد ملفاً رائعاً عن اللون الأحمر، وهو ملف جميل وجديد في فكرته وتحريره، تقول المجلة عنه: (من معاني الحب والثورة، إلى معاني التضحية... خيط واحد اسمه اللون الأحمر، الملف يفتح ملف هذا اللون، ويقلّب معانيه، على مختلف وجوهها، الرمزية واللغوية والفنية والأدبية)، والحقيقة أنه يفعل ذلك، يضم العدد قصيدة حديثة للشاعر محمد علي شمس الدين بخط يده، لكنه لا يغفل التراث في باب جميل اسمه: ديوان الأمس.. ديوان اليوم، أضف إلى ذلك الملف المصور، وعلى ذكر ذلك فإن هنالك عناية فائقة ومتوازنة بالصورة في المجلتين، واهتمام بالموهوبين من المصورين والتشكيليين.. كما أن هناك تميز في اختيار العناوين، وصياغة المقدمات.

إذاً هي إدارة فنية تحريرية راقية وصارمة، وهو إخراج يعزف موسيقى اللون، ويدونها، وكأن هنالك عناق دائم بين الكلمة واللون بحرفية متقنة، وأناقة بليغة وهادئة في نفس الوقت.

ما أرمي إليه هنا هو أن إصدار مطبوعة يحتاج قبل الإمكانيات المادية، إلى عقليات متجاوزة، ومهارات تجيد العمل الصحفي وتحبه، وتتعب على تنفيذه، لا يرضيها العاديّ، ولا تقبل بتجميع المادة، وصفّها وإخراجها كيفما اتفق، وتكدير صفاء البياض والناس بها مقابل كرسيّ وثير، أو ربح سريع، أو القيام بذلك لتأدية واجب عملي مفروض، برغبة التخلص من همه.

إنه عمل خلاق لا يتقنه إلا فنان مثقف خلاق، ولنا في كميل حوّا - الذي لم أقابله من قبل، بل قابلت إبداعه- خير مثال، وهذا العمل الناجح لا يقوم به فرد واحد، بل لا بد له من طاقم متجانس يدرك أسرار هذه المهنة الشيقة المتعبة، يجيد أدواتها، ويستشعر بحس عالٍ منابع فتنتها، ومكامن جمالها.