تداعى لهُ سائرُ القلب! (2)
« ها نحنُ غَادَرنا عِشْقٌ وجَاوَرَنا
عِشْقٌ فأيٌّ من العِشقَينِ نكتُمُهُ؟!»*
وها نحن أمام شاعرةٍ تعشقُ الشعر ولا يعدلُ كفته لديها إلا الحب، وهي تحمل مفاتيحه السحرية، وأسرارَ المعادلة الشعرية، فهي لا تقدمُ لغةً باهرةً وخيالاً وألاعيبَ دهشةٍ فتغدو القصيدة تهويماً غامضاً وطلسما، ولا هي تقدم فكراً محضاً خالياً من العاطفة والدفء والخيال، فتغدو القصيدة نظماً سقيماً مملاً.
فهي شاعرةٌ ذكية، توجّه نهرَ الشعر الذي تستقيه من ينابيع العقل والروح والعين المدربة اللاقطة للجميلِ في القديم والجديد في رحلةِ بحثِها، إلى صحاري العطش، فتسقي به الأهل، وتعوّدهم على الجمال، وهي تقوده بفطنةٍ إلى المصبّ الذي تريد، فتخرج بلآلئ، قد تدهشها هي نفسها:
«لو لمْ يكنْ قلبي بقايا منزلٍ
ما كنتُ أبحثُ فيهِ عنْ أحياءِ!»
وهي تذكرنا مفكرةً بأبي العلاء، لكننا لا نرى أبا العلاء، ولا شعراء المهجر المتأملين ولا مصادر نهلها، لكننا نلمح في أفياءِ لغتها نمير لغةٍ قرآنيةٍ مبينة، ونسعد، وتسعد مسامعنا بلغةٍ عربيةٍ عاليةٍ خاصة.
كما نسعد بهذا الالتحام بين القديمِ والجديد، وبنكهة الأسئلةِ الوجودية، وبهذا الامتداد الحر للشعر عبر العصور، ونترك لها وصف ذلك، فهي خير من تقدم نفسها:
«طابورُ حلمٍ واقفٍ ها هنا
ينتظرُ الأيامَ للآخِرِ
ملفّهُ، أوراقهُ، شمسهُ
محروقةٌ في شوقهِ الثائرِ
يردّهُ الماضي ولكنّهُ
يعودُ للصفَّ من الحاضرِ»
أليس في هذا أيضاً تلميحٌ للشاعر/ الشاعرة وتلويحٌ للقصيدة الحديثة المحتفية بموروثها؟!
ونحن نسافرُ معها في رحلتها، ويأسرنا هذا المزيج من أزهار الروح وعطر البوح، وشجر الحب وثمر التجربة في « أنت أم أنت؟!»:
«يا إمامَ الرِّياحِ كَم في عُيُوني
من صَلاةٍ لم تشْهَدِ الوَردَ خَتْما
عينُكَ المشْهدُ الذي سَيُصلِّي
في دماءِ الحياةِ وردًا مُتَمّا
أنتَ في قلبيَ النَّقَاهةُ والصَّفْوُ
وفي حَرْفيَ الضَّياعُ الأسْمى
أنتَ أم أنتَ؟ كَم تَسَمَّيتَ بالحُبِّ
فَظلَّ الهَوى وضاعَ المسمَّى»
ونجد في الرحلةِ أن ديوان شاعرتنا المتأملة كما يتبدى لنا، وكما تصفه هي، رحلةٌ وجوديةٌ بحثاً عن الشعر، أو عن « صوتٍ غيرُ ذي أجلْ»، فالشعر يعني الخلود، ويعني الملاذ أيضا، وذلك لا يتحقق إلا بتدوين هذا التردد بين الواقع والحلم.
وهي رحلةٌ في الحروف وفي ذات القصيدة أيضا، فالحروف لديها كائنات حية، وتكاد لا تخلو قصيدة من علاقة الشاعرة بالحرف والشعر في بحثها عن الذات والحب كما تحب وتحلم، وهي تصف ذاتها حين تكتب: « ترتدي القلم وتخرج حيث الورقة في انتظار نزولِ قلبها»، وقصيدة شعر المبكى تختصر لنا هذه العلاقة:
«أخذَ الشعرُ من حياتي كثيراً
ليتهُ يمنحُ الذي أعطاهُ
وأنا في سطوحِ ذكراهُ أثوي
كنتُ قد عشتُ حرة لولاهُ»
لكننا لكي نطل على روح الشاعرة، وعلى علاقتها بالشعر والواقع، وهذا الامتزاج الكلي لا بد لنا من قراءة قصيدةِ «تحريف» التي تختصرُ لنا كثيراً من أسئلتنا إن سألنا عن مكامن سحرها أو شعرها، وهي تقدم لنا الشاعرة في واحدة من أجمل صورها:
«دقِّق بوجهي، تأكّدْ من ملامحِهِ
فَرُبَّ نَصٍّ عظيمٍ قدْ حَوى خطَأَ
فَتَحْتُهُ ليرى القُرّاءُ دهـشَتَهُ
فكُنتُ وَحْدي بحُزني كُلَّ من قَرأَ
هُم حَرَّفوني وكمْ قد حُرِّفتْ رُسُلٌ
رغمَ القداسةِ كان الوحيُ مُبْتَدأَ
حشَدتُ للناسِ وجْهي لكنِ افتَرَقوا
كأنَّهم حَذِروا في عُمقِهِ نبَأَ
أيُحتفى بوجوهٍ لا نُصُوصَ لها
ولا أُثابُ بوجهٍ خَالفَ الـمَلأَ؟
هل يُجْـزِئ الدّمعُ إنْ قصَّرتُ في لُغتي
فيُصبِحُ النصُّ في العينين مُجْتَزَأَ؟
إنّي أنَقِّحُهُ.. لكن بلا أملٍ
يرُدُّه القومُ بالأخطاءِ مُمْتلئَا!»
وماذا يظلّ لنقول بعد هذا؟
يبقى أنّ هذا الديوان الصغيرَ كبيرٌ بما فيه من شعرٍ وحبٍّ وتأملٍ ودموعٍ ورجاء، وجمالِ روحٍ وعطاء، ورغبةٌ في التحليق والطيران، ووعدٍ بشاعرةٍ لا تشبه إلا قصيدتها.
لقد آن للصحراءِ أنْ تعيدَ للشعرِ يمامتهُ بعيْنِها التي لا تخطئُ شعراً!