الطاءُ والعطاء!

 الطاءُ نبيلةٌ كريمةٌ طيبةٌ بطبعها، وهي حبيبةٌ طيّعةٌ غيرمتطلبة، لذا تمد يدها بالعون إلى كل طالب حاجةٍ أو معرفةٍ، أو سائلٍ عنطريق، وهي عميقةٌ روحانية كالطواف، بسيطةٌ كالطفولةِ فهي لا تتعالى على الخلق كما أنها لا تتطفل عليهم، ولا تحمل الحروف فوق طاقتها، لكنها حين تحتدّ أوْ يُهضمُ حقها يكون الفراق والطلاق والقطيعة كما لدى البشر، لكنه لا يصل مهما طال وبلغت حدته عندها إلى التطرّف والطائفية والقتل والطعن في دين وأخلاق الآخرين، كما هو سائد لدى أهل هذه الأيام، إذ طغى الجهل على الحكمة والعقل، والقتل والفوضى على الأمن والسلام والنظام، فحالات غضبها وانقطاعها لا تطول، إذ لا تلبث أن تعود لعاداتها في العطاء وخدمة اللغة. وتشهد كل الحروف على حسن طويتها، ومن ذلك أنها مرتبطةٌ بالكرم، والكرم لا يأتي إلا من نفس كريمة، وإذا ما ذكر الكرم عند العرب ذكر حاتم طيّ: وهو حاتم بن عبد الله بن سعد بن طيء الطائي، ويكنى أبا سفانة وأبا عدي من قبيلة طيء واسمه مقرون بالسخاء والعطاء حتى غدا مثلاً، ويتبدى ذلك في عتابه الشفيف هذا لزوجه ماوية بنت حجر الغسانية:

أماوي قد طال التجنّبُ والهجرُ

وقد عذرتني، من طلابكم، العذرُ
أماوي إنّ المال غادٍ ورائحٍ
ويبقى من المالِ الأحاديث والذكرُ
أماوي إني لا أقول لسائلٍ،
إذا جاءَ يوْماً، حَلّ في مالِنا نَزْرُ
أماوي! إما مانع فمبين،
وإمّا عطاءٌ لا ينهنهه الزجرُ
أماوي ما يُغني الثراءُ عن الفتى
إذا حشرجتْ نفسٌ وضاق بها الصدرُ
ولكنّ الأبهى هنا:
فقِدْماً عَصَيتُ العاذِلاتِ وسُلّطتْ
على مُصْطفَى مالي أنامِلِيَ العَشْرُ

وتُورد الأخبارُ أنه سكن بلاد الجبلين أجا وسلمى، منطقة حائل، وتوجد بقايا أطلال قصره وقبره في بلدة توارن في حائل.

ولد قبل الإسلام وكان مسيحياً، وبعد ذلك أدركت بنته سفانة وابنه عدي الإسلام فأسلما. جاء ذكر حاتم الطائي في أحاديث عدة منها الحسن ومنها الضعيف ومنها الموضوع: عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل، فهل له في ذلك - يعني: من أجر - ؟ قال: «إن أباك طلب شيئاً فأصابه». رواه أحمد ( 32 / 129 )، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط.

أما قصة الحطيئة الشهيرة مع ضيفه فقصة الكرم على فقرٍ، وهي أبلغ في وصف الكرم العربي، وهي مذهلة إنْ كانت حقيقةً، ومذهلةٌ إنْ كانت خيالاً، وفيها قيم مضافة من كرم الروح وندى اليد إلى كرم الخيال واللغة والشعر والوصف في هذا التصوير السينيمائي المبكر، في مجموعة مشاهد، وهو يبدأ العرض بتهيئة المتلقي نفسياً كما في الروايات الكلاسيكية حيث الظلام والبؤس والوحشة:

وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ
ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَة
يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها
ثَلاثَةُ أَشباحٍ.. تَخالُهُمُ بَهما

فما الذي ينقص هذا المشهد التراجيدي المحكم ليبلغ ذروته؟!

إنها عبقرية الحطيئة حين ترسم لنا مشهد قدوم شبحٍ آخر هو الضيف:

رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ
فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاهتَمّا
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى
بحقك لا تحرمه تالليلة اللحما

ثم قصته مع ابنه التي هي قصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والحلم والافتداء: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (107) الصافات.

ولكن هل هي هنا الواقعُ أم الخيال:

وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ
أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا
يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَذبَحْ فَتاهُ فَقَد هَمّا

ولكن الله أدركه بعفوه، وها هو يجسد القصة بتفاصيلها ونتائجها عبر هذا التصوير الحسي والنفسي البديع اللطيف عبر كرَم النفس وكروم اللغة العربية وشعرها العالي:

فبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ
قدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظْما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَانسابَ نَحوَها
على أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها
فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهْما
فخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ
قدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحْما
فيا بِشرَهُ إِذْ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ
ويا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم
فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنْما
وباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً
لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشْرِها أُمّا.