خاطبتها بودٍّ بعد أن طاب خاطرها ووقتها: ما رأيك أيتها العزيزة في أنْ نتنزهَ ونمرّ على كنوزك في حقولِ عربيتنا، ونزيّنَ أوقات أهلِنا ببهائك؟

قالت أنت قريبٌ ولكنك اليوم ازددتَ قرباً فهات ما عندك!

قلتُ لها: الزايُ في الزمن وهو وقت محدّد من الزمان، والناسُ تعيب الزمان والعيبُ فيها كما يقول الإمام الشافعي:

نعيبُ زمانَنا والعيب فينا

وما لزمانِنا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمانَ بغيرِ ذنبٍ

ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا

فأكملتْ بزفرةٍ عميقة متزامنةٍ مع زفرتي:

وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ

ويأكلُ بعضُنا بعضاً عيانا!

فنقلتها بسرعةٍ من حالةِ الكرهِ والوحشيةِ والحقد التي تحاصر الناس والأوطان اليوم إلى حالةِ الحب، وقلت: والزّاي يا عزيزتي في المنزلةِ، يقول بشار بن برد في جمالٍ يتفرّدُ بهِ مزهوّاً:

هل تعلمين وراءَ الحُبِّ مَنْزِلَةً

تدني إليك.. فإنَّ الحبَّ أقصاني

يا رِئْمُ قُولي لِمِثْلِ الرِّئْم قدْ هَجَرَتْ

يَقْظَى فما بالُها في النَّوْم تَغْشانِي

إذْ لا يزالٌ لها طيفٌ يؤرِّقني

نَشْوانَ من حبِّها أو غَيْرَ نَشْوانِ

لكن المنزلة العليا، والنزُل الجنة للذين آمنوا والتزموا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (107 الكهف).

أما المنزلُ في الدنيا فلا أجمل منه هنا لدى أبي تمام حاضناً البعدين المادي والمعنوي:

نقلْ فؤدكَ حيثُ شئتَ من الهوى

ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ

كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى

وحنينُه أبداً.. لأولِ منزلِ

وهي في المزْنِ: {أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} (69 الواقعة).

وفي الخبز الذي هو أساسُ الطعام والبقاء مع الماء، ومحركُ الثورات حين يُزدرى الفقراء والجوعى ويهملون ويُحجر عليهم فيثورون طلباً للزاد بعينه وكذلك لزاد المعرفة والحرية والعدالة، وتتجلى قيمته في هذا الحنين للأمّ وللأرضِ ولفلسطين وزيتونها في قصيدة درويش البسيطة العميقة التي تحولت إلى أغنيةٍ وطنيةٍ للنازحين والمتعبين:

أحنّ إلى خبزِ أمي

وقهوةِ أمي

ولمسةِ أمي

وتكبُر فيَّ الطفولةُ

يوماً على صدرِ يومي

وأعشقُ عمري لأنّي

إذا متُّ.. أخجلُ من دمعِ أمّي!

والناسُ تحنُّ إلى الحبِّ قبل الخبزِ في أوطاننا الغنيةُ اليوم بثرواتها وشبابها، لكنها لا تحسن وزن ثرواتها بميزان العقل والترشيد والتخطيط، ومع غيابه، ومع تصحّر المشاعر باتت تبحث عنه ولا تجده إلا في الشعر، وإلا فلماذا تستعيد الغزل العذري الرقيق وتردده وتتغنى به؟! واللطيف أنهم يروون تصحرهم بهذا الشعر الذي خرج من صحاري العرب خاصة الجزيرة العربية، فهذا جميل بن معمر وهو جميلُ بثينة في أعلى درجات الحب:

تعلّقَ روحي روحُها قبلَ خلقِنا

ومن بعدِ ما كنّا نِطافاً وفي المهدِ

فزاد كما زدنا فأصبح نامياً

وليس إذا متنا بمنتقضِ العهدِ

ولكنهُ باقٍ علـى كلِّ حادث

وزائرُنا في ظلمةِ القبرِ واللحدِ

والزاي في الزيارةِ ونحن ننتظر بلهفةٍ زيارات الأحباب والأصحاب ولكننا نتعوذ من زائرةٍ كزائرةِ المتنبي الشهيرة:

وَزَائِرَتي كَأنّ بهَا حَيَاءً

فَلَيسَ تَزُورُ إلاّ في الظّلامِ

أبِنْتَ الدّهْرِ عِندي كُلُّ بِنْتٍ

فكَيفَ وَصَلْتِ أنتِ منَ الزّحامِ

وفي الزهد، وبعض الدعاة وأصحاب المنابر والأقلام يدعون الناس إلى الزهد وهم لا يزهدون في البروز والأضواء، وإذا ذكر الزهد ذكر شعر أبي العتاهية:

فلا تَعشَقِ الدّنْيا، أُخيَّ، فإنّما

يُرَى عاشِقُ الدُّنيَا بجُهْدِ بَلاَءِ

حَلاَوَتُهَا ممزَوجَةٌ بمرارةٍ

ورَاحتُهَا ممزوجَةٌ بِعَناءِ

فَلا تَمشِ يَوْماً في ثِيابِ مَخِيلَةٍ

فإنَّكَ من طينٍ خلقتَ ومَاءِ

وليس ببعيدٍ عنه في هذا رهين المحبسين أبو العلاء المعري:

ضَحِكنا وَكانَ الضِحكُ مِنّا سَفاهَةً

وَحُقَّ لِسُكّانِ البَسيطَةِ أَنْ يَبكوا

يُحَطِّمُنا رَيبُ الزَمانِ كَأَنَّنا

زُجاجٌ وَلَكِنْ لا يُعادُ لَهُ سَبْكُ

وهي في الزكاة، والزكاة في اللغة البركة والطهارة والنماء والصلاح‏،‏ وسميت الزكاة لأنها تزيد في المال ولا تهلكه، فما يهلكه الربا، والزكاةُ في النفس: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) طهرها بالطاعات.

وهي في عطر الأزهار وحريتها حيث الهواء والشمسُ والسماء، وفي عفن الزنازين حيث الحبس والذل والازدراء، إلا الأبطال الأسرى في أرض الزيت والزيتون، وفي مختلف سجون الأعداء، فهم فيها عطرٌ وفخرٌ، وهم في عزّةٍ سامقون، وكذلك الأبرياء النزيهون المظلومون في أي مكان.

ومن أنبل وأجمل الأسرى الذين دونوا معاناة الأسر والسجن بلغةٍ عربيةٍ مبينة، العربيّ البهيّ أبو فراس الحمداني:

أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَةٌ

ويسكتُ محزونٌ، ويندبُ سالِ؟

لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلةً

وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!