طيْبةُ الطيّبة:
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأوّلِ!!
المُدْنِيَاتِ لكَ الشَّوامِخَ منْ عَـلٍ
الرَّاويَـاتِ الشِّعْـرَ أنَّكَ منْ هُـنَا
منْ جَنَّةِ الدُّنْيا ومُزْدَلَفِ الوَرَى
والجَنَّةِ الأخرى تُكاشِـفُ مِنْ مِنَى
منْ طَيْبَةِ الطِّيْبِ المُعَتَّقِ حَاضِناً
للنَّخْلِ، للشَّرفِ الرَّفيعِ، تَعَدْنَـنَا*
هي المدينة المنورة بتاريخها وعطرها وأهلها المعجونين بالطيبة والكرم والتواضع، المفطورين على مساعدة الغريب واستضافته والتخفيف عنه، وإغاثة الملهوف، يعرف ذلك فيهم القريب والغريب، المقيم والعابر، وليس ذلك بغريب على من يملأ الإيمان العميق صدورهم، ويظهر على وجوههم، ويكسبهم البساطة العذبة المحببة مهما علا شأن الواحد فيهم، ويزيل من قلوبهم الفظاظة والغلظة، مقتدين برسولهم الكريم الذي ما كان فظا غليظ القلب، بل ودوداً حليماً رحيماً على خلقٍ عظيم.
كنت على موعد مع المدينة وأهلها، وللمدينة مواعيدُ ثابتةٌ في قلبي وفكري، قبل نومي وفي صحوي، مواعيدُ من وردٍ وودٍّ ونعناعٍ لا تخلفها ولا يمكن أنْ أخلفها.
فأهلها أهلي، منهم تشكلت، وتحت أنظارهم ورعايتهم نموت، وفي طرقات أعمارهم ركضت، فأنا مدينيٌّ حجيليٌّ مروّحيٌّ سالميٌّ حربيٌّ، أفتخر بنسبي ومدينتي ولا أتعصّب أبداً، وحرب قبيلة عربية يمنية الجذور من خولان في صعدة، وهي قبيلةٌ طيّبةٌ مسالمة سكنت الحجاز في منطقة ما بين الحرمين الشريفين وصولاً إلى الشمال، ونجد شرقاً، وأنا مدينيٌّ اسماً ورسماً ووشماً، ومدينيٌّ روحاً وتراثاً وحبّاً وفهما، ولا يزال يقطنها أهلي الأقربون، ولا تزالُ تسكنني لو يعلمون.
لأني ورثتُ الطِّيبَ من نبعِ طَيْبةٍ
وأني ورثتُ الماءَ من جدِّيَ الأعلى.
فأسقـيتُ من أبدى بكفٍّ فؤادَهُ
وأسقيتُ من أخفى وأسقيتُ من ضلّا**
وقد كنت كلما تملّيْت والدي رحمة الله عليه أراها، وقد رسمت نورها على وجهه، وعطّرته بطيبها وطيبتها، فقد أعطته شدة الأرض وسمرتها ومنَحها وحنانها في آن.
وأنا اليوم، وصورته لا تفارقني، أتذكر فضاءاتها، بساتينها وحرّاتها، مساجدها وقبابها، أذكر أيام الصبا، ثم أنثني على كبدي من خشيةٍ أنْ تصدّعا.
أذكر كيف ترسم قبيلة النعناع الفضاء بالرائحة واللون والنشوة والانتعاش، وكيف كيف تتعانق في الأفق المآذن والنخيل، وكيف تتجاوب أصوات مضخات المياه ومحركات الكهرباء عبر الأودية لترددها الجبال.
أتذكر الروائح المبهجة مع انتشاء الضوء الأول: رائحة النسيم الندي بالورد الذي عبر للتوّ البساتين المحيطة ليمتزج برائحة البن والهال، تتبعها رائحة النعناع، ثم رائحة السمن والعسل والخبز المعد في البيوت بأيدي النسوة الصابرات المانحات، لتتعالى قليلاً قليلاً حكايات الكبار ممزوجة بضحكات الصغار وركضهم.
إنها أيام مليئة بالحياة المشرقة، والطيبة التي تكسو كل شيء.
كان لكل شيء طعم, ولكل مشهد عطر ورائحة خاصة.
وعندما كبرنا مع درجات العمر أصبح للمدينة في قوبنا وعقولنا قيمتها الدينية والنبوية والتاريخية والمعرفية الثابتة الراسخة مهما ابتعدنا عنها في الارض.
وكلما ازداد وعينا، وازدادت قدرتنا على القراءة الكاشفة، تبدّت لنا عظمة المدينة المنورة، عظمة الدين الذي بثته، والنبيّ العربيّ الأمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، الذي احتضنته، وعظمة الرجال الذين آمنوا به وصدقوه، وصدَقوا فيما عاهدوه، فآزروه ونصروه، فأعطاهم الله حكم الأرض، والرجال الذين غادروها فاتحين ومرسين أعظم وأرحم حضارة عرفتها البشرية، وكان بهم ولهم بفضل الله نقص الأرض من أطرافها، لتكتمل حضارةٌ أهدت للعالم الخير والعدل والمساواة والسلام، لا كما تفعل حضارات الزيف والحروب والإرهاب والعدوان والنووي والنابالم.
وبالأمس عندما تجولت فيها، واحتضنني حرمها، وأحاطني حبُّ وكرم أهلي وأهلها، وقرأت روحي بها، غالبت دمعي وأنا أحضن الوجوه التي تقمصت وجه وطيبة والدي، وقد غالبته باستعادة سيرة أمة خرجت عظمتها من هذه الأبواب، وهذه البقاع الطاهرة لتعطر التاريخ والجغرافيا ما شاء الله.
في الحرم كان أحفاد الذين وصلتهم الرسالة على ظهور الإبل والخيل، يعودون نفس المسافات التي قطعها الفاتحون الأوائل في رحلات أيسر رغم مشقتها، ليصلّوا على النبي، ويصلّوا في مسجده.
فكرت بكل شيء في ساعات، وعبر أمامي تاريخنا بعظمته، التاريخ الذي كتبته هذه المدينة الصغيرة، وازدادت تلك المفارقة، وذلك الاستذكار الممتع، والصديق الشاعر عبد الله الوشمي ينبهني إلى كتابة صغيرة تشير إلى حدود المسجد النبوي على عهده صلى الله عليه وسلم.
وسألتُ نفسي أفاختصروا الجغرافيا، وطووا الأرض طيّاً منطلقين من هذا المكان الصغير؟!
كنتُ فخوراً، ولم أرد أن أعكر صفوي بالحسرة والندم، ولم أشأ الخوض في الواقع المرير اليوم، لكنني من بيت الرسول، وبيت الخلافة، دعوت لعواصم الخلافة المتناثرة، ودعوت للشهداء والصابرين والمقاومين لشرور الغطرسة من القدس إلى بيت الحكمة، ومن الماء إلى الماء.
دعوت لأهلي أبناء الحضارة العربية الإسلامية الذين يجابهون اليوم أشرس حملة تدمير وتشويه عرفها التاريخ، ودعوت لوطني الحبيب أن يحميه من شر وشرر الحروب والفتن وفيه بيوت الله، ومهد الرسالة، ومنه انطلاقها، وإليه يؤم ويؤوب المسلمون.
هي مدينتي، وهي المدينة المنورة، وهي طَيْبة الطيّبة المُحرّمة، المقدسةُ، المحروسة، المحفوظة، المحفوفة، المُختارة، دارُ الهجرةِ ومأزر الإيمان، منها البدء، وفيها الحفاظ على العهد، وستبقى الجذر والأصل والعودُ والثمرُ والسند والمدد إن شاء الله.
وهي المدينة الحبيبة الأولى:
نقّل فؤادكَ حيثُ شئتَ من الهوى ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفتى وحنينُهُ أبداً لأوّلِ منزلِ...***
*من قصيدة وطن الجنى للشاعر كاتب المقال.
**من قصيدة المرثية الرابعة للشاعر كاتب المقال.
***أبو تمام.