أسرارُ الفلِّ والياسمين ( 2 )

" حزينٌ كما يحزن الياسمينْ

أغني أحبكِ

يخضرُّ فرعٌ

ويحمرّ خدٌّ لهُ سحرُ تينْ."*

 

يمثلُ الياسمين رقةَ المرأةِ ونعومَتها وعطرَها، وقد التفتَ إلى ذلك قدامى المصريين، فاستخدموا زيته، وغيره من النباتات العطرية، كمرطب وعلاجٍ ومحفّزٍ للخصوبة، وتشير بعض الدراسات إلى أنّ وجود عطر الياسمين في غرفِ النوم يساعد على الراحةِ النفسيةِ والنوم.

ومن الغريبِ أنْ تدورَ عجلةُ اقتصادِ دولٍ على عطر هذه النبتة الرقيقة وغيرها من مانحات العطر والجمال، حيثٌ يتنافسُ العلماء والخبراء على تقديم أفضل الوصفات والخلطات، فتتوسع صناعةٌ العطور المهمةُ عبر العالم، حتى أصبحَ للعطرِ عاصمة، وفي هذا سرٌّ ياسمينيٌّ آخر يتجلى في فنٍّ حديثٍ حداثةَ أوروبا، قديمٍ  قدمَ الهندِ والصين، يسعى إلى مضاهاةِ سحر المرأةِ، وعطرها الأنثويّ، وإرضاء جمالِها ودلالِها.

 

والياسمين كذلك رمزٌ للبياض الماديّ والمعنويّ، اللون والرقّة، ولا رقة، لا حبّ، لا بياض حيث الدقة والجلال واللباقة والنعيم، مثلما نجد هنا في ذائقتنا العربية الفريدة:

وَيَبِيتُ بينَ جَوانِحي حُبٌّ لها               لو كانَ تحتَ فِراشِها لأَقَلَّــــــها

ولعمرها لو كان حبُّكَ فوقَها                يوماً وقد ضحِيَتْ إذاً لأظلّـــها

وإِذا وَجَدْتَ لها وَساوِسَ سَلْوَةٍ             شَفَعَ الضميرُ إلى الفؤادِ فَسَلَّها

بيضاءُ باكرَها النعيمُ فصاغَها              بلبــــــاقةٍ فأدقّــــــها وأجلّـــها

هذا ما صاغهُ بقلبِهِ ابنُ المدينةِ المنورةِ الفقيهُ الرقيقُ عروةُ بن أذينة في العصرِ الإسلاميّ، حينما أدركه الحب فرسمَ لوحةَ الحبّ والبياض بحروفهِ الدافئة، فالحبّ الياسمينيّ أي العذريّ عنده - إنْ صحّ الوصف- يُقِلُّ ويُظِلّ ويُزيلُ الوساوسَ ويَسلّها.

أما ابن المدينة المنورة الحديث فيختلط لديه عطرُ ومطر الحبيبةِ بمطر وعطر الطبيعةِ في رقةٍ تجسدها ألْفةُ وجمالُ الطبيعةِ، وذاكرةُ الطفولةِ، والطائفُ مدينةُ الحلمِ والغيم حيث الفل والورد والياسمين كما أشرنا في بدايةِ رحلةِ العطرِ هذه:

" وإذْ تمطرين

كما يمطرُ الطائفُ المستريحُ بحضنِ الجبالْ

فيأتي الجمالْ

وتغدو الحياة بنا ألفةَ الفلِّ والوردِ والياسمينْ."

ومن أسرار هذا الكائن البديع سرُّ الشكل وسرّ المعنى، وسرّ الجمع بينهما في هذا التآلف الخلّاق، وهذا من أسرار عظمةِ الخالق سبحانه وتعالى.

وهي إشكاليةُ وأسئلةُ المبدعين والنقاد منذ عصور، وإشكاليةُ الشعر والإبداع الحديث على وجه التحديد:

" الشكلُ يبهجُ
إنّما المعنى حزينْ

مذْ أزهرتْ في الروح

رائحةُ الزمانِ قصيدةٌ

وعلى جدارِ القلبِ عرّشَ ياسمينْ."

 

إنها قصة الحب والياسمين وأسرارهما، وقصةُ المرأة وعالمها السحري الغامض الذي لا تمنحُ أسراره إلا بقدرٍ، ولا تمنحها إلا لمحبٍّ، أما مفاتيحهُ فلا تمنحها إلا لمن تحب، وهو وإنْ امتلك هذه الأسرار لا يستطيع فعل شيءٍ بها دونها، لأن المعادلة لن تكتملَ من دونِ مكوناتها ونسبها، بل إنه لا معادلةَ، وإن نحنُ أمعنا النظرَ، لا عدالةَ من دونها. وهذا من أسرار المرأة المانحة للحياة، والحبّ في الحياةِ وللحياة، وكذلك في الطبيعةُ التي تمنحنا أسئلةَ وأسرار ومعاني الوجود والحياة، ومن ذلك الياسمين الذي يجسد معاني الحياة والمرأة والعطر والمنْح، ولا يقدر كل ذلك كارهو الحياة والطبيعة والمرأة والياسمين، فقد ساد الجهل، ومات الحبّ وحلّ محله الكره والقتل لكل مفردات الحياة:

 

" ما قلتِ؟!

تسرقني الحروفُ

على تكسّر ضوئها والياسمينْ.

ما قلتِ؟!
تغرقني العيونُ
وقرب ساحل شكِّها

يرنو اليقينْ. 

هل قلتِ شيئاً غامضاً كالحبِّ؟

ما للحبِّ حينْ.

لا يعرفُ الحبُّ الكتابةَ

لا القراءةَ
لا اليسارَ
ولا اليمينْ.
الحبُّ من شجرٍ يصلّي
يستغيثُ ويستعينْ.

والماءُ سرّ العارفينْ.

والغيمُ منكِ..
ومن تنهّدِ سائلينْ."

 



*المقاطع الشعرية المقوسة للشاعر كاتب المقال.