أسرارُ الفلِّ والياسمين (1)

هل للياسمين والفلّ أسرار؟!

أم هي أسرار مدن الحضارة، وأهل الحب والشعر والطبيعة والجمال؟!

أم هي تلك العلاقة الجدلية بين الطبيعة والبشر، تلك العلاقة المضطردة المطردة ما بين حاجةٍ وإسرافٍ وبذخ وبين إغفال يصل إلى الإهمال أثناء عملية الإعمار والتدمير التي يقوم بها إنسان العصر الحديث الصناعي الماديّ الشره المتعجل، رغم تحذير العلماء والحكماء، وبين اهتمام روحيّ وعمليّ يجسده بالكتابة عبر التأمل والحرقة والحب المفكرون والمبدعون وأنصار الطبيعة والجمال الحر.

 

وسنتحدثُ بدفءٍ في هذا، ولكن في البدء لا بد أن نسأل: ما هو الياسمين قبل أن نكشف بحبٍّ معرفيٍّ وجماليٍّ أسراره لا بغريزةٍ فضائحيةٍ كما هو القبح اليوم؟!

الياسمين في المعاجم: اسم علم مؤنث يوناني أو فارسي، وجعله بعضهم فرعونياً. وهو كذلك مذكور بالكردية والآرامية. وهو اسم زهرة عطرية معروفة، عربِيُّها السَّمسق. والفرس يلفظونه: ياسَمن. وهو لفظ جمع واحده ياسمينة، ويسمون به كذلك.

والياسمين نَبَاتَاتٌ مِنْ فَصِيلَةِ الزَّيْتُونِيَّاتِ، مِنْ رُتْبَةِ الْيَاسَمِينِيَّاتِ، لَهَا أَزْهَارٌ بَيْضَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ، مُنْبَسِطَةُ الأَوْرَاقِ، وَهِيَ ذَكِيَّةٌ عَطِرَةُ الرَّائِحَةِ، يُسْتَخْرَجُ الْعِطْرُ مِنْهَا.

والفل شقيق الياسمين، وهما من نفس العائلة الزيتونية، ونفس رتبة الياسمينيات، ولعلنا لا نخطئ حين نجمعهما فنقول صباح الفلّ والياسمين في عصرنا الحديث.

هذا الكلام والوصف ومثله شائعٌ في محركات البحث، لكن ما الذي جعل الياسمين شائعاً في شعرنا العربي الحديث، وفي حياتنا اليومية وأحاديث الناس وصباحاتهم، حتى أصبح حليفاً للقهوة البكر؟!

ونقول للتوضيح بدءاً إنّ ما نتحدث به عن الياسمين هنا ينطبق على الفل في معظم فترات رحلتنا العطرية البيضاء هذه، حسب توصيفنا السابق لهما، وكما هو واقع الحال في عالمنا العربي في العصر الحديث.

إن أول ما يخطر في بالي إذا ما ذكرت الياسمين من الديار التي زرت وعرفت الشام، ودمشق وبيوتها العتيقة، وبغداد وعطر الشعر والتاريخ والشروق والغروب، والطائف ودروب العطر، وموائد الندى والضباب والمطر، والمدينة المنورة، والحجاز بشكل عام، والجنوب وصنعاء واليمن.

أما شعرياً فترد النباتات والزهور بأسمائها العربية القديمة في المعلقات الجاهلية بداية شعرنا العربي، كما ترد في البدايات الأوروبية في الأوديسة والإلياذة لدى الإغريق، وكذلك في بدايات الشعر الأوروبي الحديث، وليس بغريب أن يكون اسم ديوان بودلير الشهير « أزهار الشر»، وأن يجسد رسامهم الهولندي فان كوخ عباد الشمس في رسومه، فالمبدع ابن بيئته، أما ت. س. إليوت فيحضر الليلك في مطلع قصيدة الأرض اليباب وهي واحدةٌ من أهم قصائد الشعر الأوروبي الحديث، نجدها في الترجمة المميزة للناقد المبدع الدكتور عبد الواحد لؤلؤة:

نيسان أقسى الشهور،

يخُرج الليلك من الأرض الموات،

يمزج الذكرى بالرغبة،

يحرك خامل الجذور بغيث الربيع

وفي بحث الذاكرة العربية وذائقتها، لديّ تحديداً، أجدُ حضور اسمَي الورد والزنبق لدى الأعشى في معلقته الجاهلية في هذا الوصف الخرافيّ لحبيبته:

إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أصْوِرَةً

وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِـنْ أَرْدَانِهَا شَمِلُ

ما رَوْضَةٌ مِنْ رِياضِ الحَزْمِ مُعشبةٌ

خَضرَاءُ جَادَ عَـلَيهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ

يُضَاحكُ الشَّمسَ مِنهَا كَوكَبٌ شَرِقٌ

مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النْبتِ مُكْتَهِلُ

وكان قد ذكر نبات « العشرق» في صورةٍ سينمائية تجسد الحركة واللون والصوت قبل ذلك بأبيات:

تَسمَعُ للحُليِ وَسْوَاساً إذا انصَرَفَتْ

كمَا استَعَانَ برِيحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ

كما يرد الوردُ بعد الفتوحات والاختلاط بالحضارت الأخرى كما الفارسية لدى البحتري في بديعته عن الربيع:

وقد نبّه النيروز في غلس الدجى

أوائلَ وردٍ كنّ بالأمسِ نوّما

لكنني لم أمر على الياسمين، أو هذا ما أفتتني به الذاكرة، أو فات قراءاتي المتواضعة، والأقرب أن يكون وارداً في الأدب الأندلسي، ولكن البناء الحضاري هناك هو صورة دمشقيةٌ بشكل أو بآخر، نقلتها الفتوح وأثمرت بالتزاوج مع المحليّ الرقة والياسمين، فعبد الرحمن الداخل لم يشتق إلى الياسمين، ولكنه اشتاق لنخل الجزيرة، أي أن الياسمين إن وردَ وردَ متأخراً كابنتَيْ شعيب.

أعتقد أن شيوع الياسمين في شعرنا - وأنا لا أقول حضوره بل أقول شيوعه- جاء عبر تبسيط نزار قباني للشعر وتقريبه من اليومي، وإخراجه من المعاجم والنظم، من طوق الياسمين إلى أبجدية الياسمين، ولعلهم لذلك سموه شاعر الياسمين. وهو ربما استقى ذلك من شعراء لبنان الذين اتسموا بالرقة وحب الطبيعة، ومنهم شعراء المهجر، وجاء من بعده ورافقه في ذلك محمود درويش، وإن اختلفت المشارب والغايات إلا في السعي نحو تبسيط الشعر وتوصي له لأكبر عدد من المتلقين عبر الارتقاء به لا عبر تتفيهه خاصة لدى الأخير، الذي نجد في شعره حضوراً لكل نباتات فلسطين والشام وليس الياسمين فحسب، وهو ما نجده كذلك لدى الشعراء المجايلين كسعدي وفواز عيد وغيرهم.

ومن يعرف بيوت الشام القديمة، والبيوت الدمشقية تحديداً، وكذلك بيوت الطائف جدرانها وأفنيتها الداخلية يعرف أسرار الياسمين.

كذلك من يعرف شوارع العواصم الغنية الفقيرة في دمشق والقاهرة وغيرها يعرف أسرار الفقر والطفولة الملغاة المهدرة لدى أطفال الشوارع من بائعي وبائعات الفل والياسمين، وهم يقدمون للغرباء العطر والبياض بينما يستنشقون سموم عوادم السيارات تحت سياط أشعة الشمس في النهار اللاهث المكتظ، أما في الليل فتقرأ أسراره في عيون سيدات متعباتٍ رسَم البؤس ملامحه على وجوههنّ البريئة، تدفع لهنّ قيمة الفل أو الياسمين وتهديه لهنّ لعلك ترسم بسمةً على وجوههنّ، ولعلهنّ يحتفظنَ بذلك بعيداً عن اليد القاسية التي استخدمتهنّ فأذلتهنّ وأبقتهنّ ساهراتٍ بعيداً عن أطفالهنّ!!

إذاً نعم للياسمين والفلّ أسرارٌ كما للنوافذ والبيوت، منها الندى والخجل، كما لدى فتياتنا، وكما أقول:

لها والنوافذُ سرٌّ

وأسرارهنّ الندى والخجَلْ