دروب الجهل والعولمة!!
«عنقي على السكّين يا وطني
ولكني أقولُ لك انتظرني
ويداي خلف الظهر يا وطني
مقيدتان، لكني أغنيّ»*
إذاً هل نحن متهمون كشرائح ثقافية مختلفة بهذا السقوط، وبهذه الهاوية السحيقة؟!
وهل وجد منظرو التسوية والعولمة الجاهلة، والقرية الكونية، والانفتاح، والانبطاح ومشرعوها ثغرة في جدارنا، وأرضاً خصبة، ومناخاً ملائماً لتسويق الخديعة، وتمرير المشاريع المريبة، ووضع الدولار قيمة، وأساساً للحياة المبتغاة المنشودة.
هل وجدوا أمامهم قلاعاً رملية سرعان ما غسلوها على شاطئ الفجور بماء الرذيلة؟!
وهل ساهم مثقفو الارتخاء، وطلبة «الفن للفن» في ذلك؟!
هل ساهم غياب الإبداع الجاد أو تغييبه، في حضور وتفشي المضاد؟!
وإذا ما تجاوزنا ما يواجهه الإبداع في كل زمان ومكان، ونبشنا الداخل، لوجدنا مثلاً ان الاتهام السائد للأدباء الذين يلتزمون بمواقفهم الثابتة من قضايا امتهم، ويعبرون عنها بوضوح، ودون كلل، وينسلون من غرامياتهم، وتفاهاتهم، إلى صدر الأمة الرّحب، وهمومها، وطموحاتها، قاسٍ وعنيف إلى حدِّ النفي والطرد من جنّة الإبداع.
كما كان سائداً ذلك التوزيع المزعج فرأينا أدباً للمقاومة، وأدباً للثورة، واحتجاجاً على ذلك وامتعاضاً منه، ولكننا لم نر احتجاجاً بنفس القدر على أدب السرير، أو على الأدب الضرير!!
وقيل لنا إن فلسطين بعيدة، وإن فاكهتنا ليست البرتقال، وقيل لنا إن الحرب بعيدة، وان على المبدع ان يغرف من جنته، وان على الإبداع ان يكون أعلى، وأغلى من الأرض!!
ترى ما الذي يقوله اليوم نفس الأشخاص والنار تلتهم أبوابهم الخشبية، وأثاث أبراجهم، وأبراجهم؟!
ترى ما الذي يقوله أولئك الذين كانوا يغالون في رفض كل ما هو جاد، وحقيقي، وجوهري، وملموس وخفضِهِ وقبول كل ما هو عابر وفرعي، وتأصيلِهِ ورفعِه؟!
وإذا ما أرادوا إيهامنا اليوم بأن ذلك ليس كذلك، وانهم إنما أرادوا غير ذلك، وأن العيب في قدرتنا على الاستيعاب، نقول لهم إنهم أضاعوا المِشْية، والفكرة، والمعنى والمبنى، والطريق، والهدف.
لقد أهمل هؤلاء، على سبيل المثال «الجرنيكا» وهم يقلدون «بيكاسو» تلك اللوحة الخالدة التي تختصر ما نريد التعبير عنه.
ولم يروا في بيكاسو، أي في مدارس الأدب الحديث، إلا تلك البدايات التي لم يفهموها، فقلبوها، وقلبوا تفكيرهم معها، إن لم يكن مقلوباً أصلاً، وكذلك إبداعهم معها. وهم لم يفكروا أبداً في ذلك الذي يَبْقى، في ذلك الذي يُبقي مثلاً ناجي العلي فارساً لا نقول أوحداً، ولكن نادراً ومبدعاً عالمياً بعد رحيله بعمر.
وبالنسبة لنا هنا هل فات الأوان لكي نعترف بأن ساحتنا الثقافية باتت فقيرة ومهلهلة، لنبحث في سرّ هذا النسيج المتآكل؟!
وهل بات من العيب النظر في المرآة، ومن المستحيل إعادة الماء إلى مجراه؟!
*الأبيات الشعرية للشاعر الفلسطيني سميح القاسم