العينُ العاشقة (1)

«إذا طلعتْ شمسُ النهارِ فسلِّمي

فآيةُ تسليمي عليكِ طلوعُها

بعشرِ تحياتٍ إذا الشمسُ أشرقت

وعشرٍ إذا اصفَرَّتْ وحان وقوعُها»*

غريبةٌ عجيبةٌ هي عينُ العربيةِ العاشقةُ، الجامعةُ بين الرؤية والماء، بين عمق الروح وأسرارها، فالعيون نوافذ الأرواح، والصبّ تفضحه عيونه، وبين النبع وعيون الماء، والنبع ينابيع إيمان ومعرفةٍ وماء، وعلمٍ وعقلٍ وعمل وثقافة وحضارة، ورغم توفر المعارف وازدياد ينابيعها ومعينها بشكل لا مثيل له في تاريخ البشرية، فقد قلّ العارفون والباحثون عن المضيء وما يخدم الإنسان ومستقبله فيها، في مجتمعاتٍ عجِلة مستهلكة، هي أميل إلى ثقافة الاستهلاك السريعة التي يسهل معها تعليب العقول بدل تعليمها، وتوجيهها عن بعد حسب ما تخطط له الجهات العالمية، والإقليمية، ومنها ما نعرف، وكثير منها مما لا نعرف، ومن هنا جاءت البروباغندا وجذورها لاتينية، وعروقها تبشيرية فيما أعتقد، للتضليل، وتعميم الكذب لا الحقيقة، وتوجيه عقول الشعوب والعامة، وبالتالي التحكم بها.

والعينُ عينٌ عاشقة، عليلةٌ بالحب لكنها عاليةٌ كالنخل، لها عرف تزهو به، والأعراف أوائلُ الأشياء وأعاليها، ولذلك كان اسم هذه الأعراف التي أكتب لكم منها. والعينَ علَم، يرفرف علَمها في العلياء بين أمم الحروف، وكل حرفٍ أمة في شان، لكنهم متجانسِون متعانقون في دولة العدل والعقل والبيان، دولة اللغة العربية العبقرية العظيمة. ولمعرفة أهمية العين لنعد معاً إلى معجمنا ومرجعنا لسان العرب: «هذا الحرف قدمه جماعة من اللغويين في كتبهم، وابتدأوا به في مصنفاتهم; حكى الأزهري عن الليث بن المظفر، قال: لما أراد الخليل بن أحمد الابتداء في كتاب العين أعمل فكره فيه فلم يمكنه أن يبتدئ من أول أ ب ت ث لأن الألف حرف معتل، فلما فاته أول الحروف كره أن يجعل الثاني أولا، وهو الباء، إلا بحجة، وبعد استقصاء تدبر ونظر إلى الحروف كلها وذاقها فوجد مخرج الكلام كله من الحلق، فصير أولاها بالابتداء به أدخلها في الحلق، وكان إذا أراد أن يذوق الحرف فتح فاه بألف ثم أظهر الحرف نحو أب أت أح أع، فوجد العين أقصاها في الحلق وأدخلها، فجعل أول الكتاب العين، ثم ما قرب مخرجه منها بعد العين الأرفع فالأرفع، حتى أتى على آخر الحروف، وأقصى الحروف كلها العين، وأرفع منها الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرج الحاء من العين، ثم الهاء، ولولا هتة في الهاء، وقال مرة ههة في الهاء، لأشبهت الحاء لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه الثلاثة في حيز واحد، فالعين والحاء والهاء والخاء والغين حلقية، فاعلم ذلك. قال الأزهري: العين والقاف لا تدخلان على بناء إلا حسنتاه لأنهما أطلق الحروف، أما العين فأنصع الحروف جرسا وألذها سماعا، وأما القاف فأمتن الحروف وأصحها جرسا، فإذا كانتا أو إحداهما في بناء حسن لنصاعتهما. قال الخليل: العين والحاء لا يأتلفان في كلمة واحدة أصلية الحروف لقرب مخرجيهما إلا أن يؤلف فعل من جمع بين كلمتين مثل «حي على» فيقال منه حيعل، والله أعلم. والعرب منبع الشعر والبيان، وبلغتهم نزل القرآن، فحفظهم وحفظها من النسيان وعبث العابثين، ثم جاروا على أنفسهم واعتدوا على حياضها عبر التغريب وادعاء العولمة، ولاموا الزمان وهم المعتدون، يقول الإمام الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيبٌ سوانا

ونهجو ذا الزمانَ بغير ذنبٍ

ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليسَ الذئبُ يأكلُ لحمَ ذئبٍ

ويأكلُ بعضُنا بعضاً عيانا

والعين الشجاعةُ، كما يراها قطري بن الفجاءة هنا، حيث تتجلى جماليات العين والشعر معا:

أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً

مِنَ الأَبطالِ وَيحَكِ لَن تُراعي

فَإِنَّكِ لَو سَأَلتِ بَقاءَ يَومٍ

عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي

فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً

فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ

وَلا ثَوبُ البَقاءِ بِثَوبِ عِزٍّ

فَيُطوى عَن أَخي الخَنعِ اليُراعُ

سَبيلُ المَوتِ غايَةُ كُلِّ حَيٍّ

فَداعِيَهُ لِأَهلِ الأَرضِ داعي

وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم

وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ

وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ

إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ

** ** **

* قيس بن ذريح، قيسُ لُبنى